شعراء وكتاب وفنانون يتحدثون لـ«الشرق الأوسط» عن أسباب هجرتهم وتجاربهم الإبداعية خارج الوطن
الخرطوم: الصادق الرضي

شهدت الساحة الثقافية السودانية، هجرة على نطاق واسع، بدأت منذ ما يقارب العقد من الزمان، وقد بدا تأثيرها واضحاً على النتاج الأدبي والفني السوداني كماً ونوعاً. لكن هل حقق المهاجرون السودانيون حضوراً ثقافياً في مهاجرهم أو منافيهم المتعددة؟

هنا رأي من داخل السودان، وآراء لمهاجرين من مناطق مختلفة:

* محمد مهدي بشرى*: هجرة مأساوية

* الهجرة حدثت في وقت قصير وبموجات كبيرة جدا ولا أتصور أن تكون نتائجها إيجابية، لان من هاجروا اصبحوا في مواقع اقل من مواقعهم، في دول متقدمة رأسماليا وثقافيا والمنافسة فيها شرسة. والإنسان السوداني زاهد ـ متواضع ـ رومانسي، لذلك نسمع عن مآس كثيرة حدثت للمبدعين بصفة خاصة. هناك من ترك مجال موهبته من تشكيليين وموسيقيين ولكن هناك نماذج طيبة تحاول أن تتواصل مع البلد وان تواصل إبداعها وتطور نفسها. سأشير هنا إلى تجربة أبكر آدم إسماعيل الكاتب الذي صدرت له أخيرا رواية «الضفة الأخرى»، وهو نموذج للكاتب الجاد الذي يبرهن على إمكانية الإفادة من مناخ الانتاج الثقافي والابداعي واحترام الزمن والتقاليد المتوفرة في هذه الدول ويتطور ويفرض نفسه خصوصا وقد اصبح العالم قرية واحدة. هناك أيضا محمد محمد خير يكتب من كندا مقالات جميلة يعكس من خلالها الواقع رغم الحزن والمرارة التي يعبر عنها، أيضا من كندا لا يزال يحيى فضل الله يواصل كتاباته وهناك نماذج ربما لم اطلع على إنتاجها. بشكل عام، كانت الهجرة مأساوية لكثير من المبدعين على مستويات كثيرة ولا يزال الوقت مبكرا على الحكم أو الخروج بملاحظات واضحة. إذا كانت هناك جدية يمكن الاستفادة من الهجرة ولكن السودانيين عرفوا برومانسيتهم وزهدهم، والصدمة تحدث بعد ذلك.

* قاص وناقد وأستاذ جامعي مقيم في السودان

* حسان علي أحمد*: العمل الجماعي هو الأبقى

* محاولاتنا الإبداعية في الداخل والخارج تعاني من عدم الاستمرارية. مشاريع كثيرة تبدأ جادة ومتميزة وفجأة تنقطع مثل مجلة «الخرطوم» ومجلة «الثقافة السودانية» ومجلة «حروف»..... الخ. وإذا كان هناك إشكال بالداخل فبالخارج إشكاليات اكثر.... هناك بعض المحاولات الفردية ولكن تأثيرها سيظل محدودا، العمل الجماعي هو الأبقى ولا ادري ما العمل حتى نصبح كالشوام والمغاربة. إقامتي خارج البلاد، إضافة على مستوى التفرغ. كنت في السابق وقبل سفري اعمل موظفا بالصباح وفنانا بعد الظهر.. تلك الازدواجية أرهقتني.. لذلك جاء قرارالتفرغ بالقاهرة، والقاهرة مدينة كثيفة النشاط الإبداعي عموما والتشكيلي خاصة. فنانون مصريون واجانب من كل ال****ات، صالات عرض خاصة وعامة كلها نشاط وحركة، مهرجانات تشكيلية محلية وعالمية، بجانب سفري ومشاركاتي خارج مصر وزياراتي للمتاحف وصالات العرض، كل ذلك في تقديري ساهم بشكل أو بآخر في التحول والتغيير والإضافة ولا ادري ما هو رأي الآخرين. أما بشأن الاغتراب عن البيئة الثقافية والاجتماعية بالوطن فهذا ما يؤرقني، أعاني كثيرا لأحقق توازنا ما.

* فنان تشكيلي مقيم في مصر

* الرشيد أحمد عيسى*: العولمة تأخذ منا البراءة

* لم أجد تعبيرا اجمل وابلغ مما قاله الشاعر عاطف خيري: لسنا في البيت لسنا في الحسبان. إن ما يحدث في السودان شيء لا يمكن وصفه، ليست هجرة المبدعين فحسب إنما هجرة الكفاءات العلمية والمهنية في كل المجالات الحيوية المهمة. وهذه مسؤوليةالأنظمة السياسية السودانية التي تعاقبت على السلطة، مما احدث فجوة خطيرة في الحياة السودانية وجعلت الوطن يغوص في وحل التخلف المريع. كثيرون هم من ضاقت بهم سبل الحياة من المبدعين، على كافة الأصعدة الاقتصادية والسياسية. لم تقف المسألة عند الغربة وانما أصبحت هجرة، أي اقتلاع من الجذور الثقافية والاندماج في حيوات وثقافات أخرى تأخذ منك أغلى ما تملك ولا تعطي غير تقنية إلكترونية وقيم استهلاكية وشيء من التواصل النفعي. إنها العولمة التي تجبرك على نمط حياة استهلاكي وتأخذ منك البراءة والعفوية. أنا لا أريد أن أقول إن الذين آثروا الهجرة قد هزموا ولكن إذا استمرت فنحن ذاهبون نحو الهزيمة بالتأكيد. نحن مطالبون بالانقلاب على الأوضاع المزرية التي يعيشها المبدع السوداني بالداخل وبالخارج، أما زملائي بالداخل فان معاناتهم أضعاف وأنا لم اغب طويلا عنهم. أتابع هذا التدهور المريع فيما يقدم من أعمال ولكن شروط الإبداع في السودان منتفية، إن المسألة محاولة للعيش والاستمرار في الحياة. ما يحلم به فنان الدراما في السودان اكبر واجمل من هذا بكثير ولكن من يعطي المبدع حقه حقا؟ حقا لا كرامة لمبدع في وطنه.

* ممثل ومخرج مسرحي مقيم في السعودية

* الحسن البكري*: جاذبية فكرية

* الهجرة إلى الخليج في كثير من الأحوال، لا تسمح بإنشاء علاقات مثاقفة وطيدة بين المهاجرين أنفسهم وبين المجتمعات التي هاجروا إليها. كما تعلم هاجر المثقفون الشوام والمغاربة إلى بلدان ذات جاذبية فكرية عالية فانفعلوا بتلك البلدان وتفاعلوا معها واصبحوا أحيانا جزءا من منظومة قيمها الثقافية الأمر الذي لم يتوفر في مهاجر المثقفين السودانيين. رغم ذلك أتاحت الهجرة للكثيرين، وأنا من بينهم، فرص للقراءة والكسب المادي، الذي يقلل من الهواجس المتعلقة بهموم الحياة اليومية الفظة، وأتاحت العزلة، وهي هامة جدا لإنجاز أي كتابات يعتد بها. أظن أن هذا ساهم في ظهور كتاب وشعراء وتشكيليين عديدين بتلك المهاجر.

* روائي مقيم في قطر

* محمد عبد القادر*: هربت من هيمنة الأحزاب جميعاً

* حالتي تختلف قليلا عن أصدقائي المبدعين الذين هربوا من هيمنة الحزب الأوحد، هؤلاء لهم دينهم ولي ديني. فأنا هربت من هيمنة الأحزاب جميعا وخيبتها بلا استثناء، إذ انه وبعد أن عرضت نفسي للخطر، حينما خرجت مع زملائي الطلاب إلى الشارع ضمن انتفاضة أبريل التي كانت طلابية في الأساس، والتي أطاحت بنظام مايو، لم اكن اعرف أن نموذج الديمقراطية المتوفر في الغرب يستحيل أن يتحقق عندنا. الديمقراطية في نظري ديمقراطيتان، إحداهما نظرية غربية اعترف ببهائها، والثانية نوع آخر من الديكتاتورية الخاصة بنخب تصطرع على السلطة في خنادق مؤقتة اسمها الأحزاب السودانية التي تقول شيئا وتفعل شيئا آخر. أنا ممن لم ينتموا إلى احدها يوما، لكونها مؤسسات قنوصية تكثر الحديث عما لا تمارسه لصالح المجتمع، والسبب هو أنها مؤسسات رعوية وريعية وشديدة الهشاشة إلى درجة الانقسام لاسباب واهية، كما أنها لم تحقق يوما شرط أن تكون مؤسسات مدنية. والغريب هو أن المؤسسة العسكرية، رغم ما يعتورها، هي المؤسسة المدنية الوحيدة في السودان كما أظن، حيث احترام القانون وتوافر المؤسسية والتراتبية والتماسك العضوي واحترام الجميع دون تفرقة عنصرية أو دينية.

وفوق ذلك فان الواقع الاقتصادي لم يكن محتملا لانه ضد إنسانية وكرامة الإنسان.. وهكذا خرجت. في الخارج استطعت ان اعبر عن نفسي بأكثر مما كان متاحا لي من جانب أدعياء الديمقراطية الذين يدجنون الشعراء. ومما أتاحته لي أبوظبي هذا التوافد من جانب أهم الشعراء والمفكرين العرب الي المجمع الثقافي، كما انه بات بوسعي أن اشتري كتبي التي أريد بحرية أو أن اذهب الي المكتبة العامة أو معرض الكتب الدولية لانتقي ما أشاء ليفاجئني بما لم يخطر علي بالي، أو أن احتك بشعراء جميلين وحقيقيين جاءوا من بيئات ثقافية مختلفة عربية وأجنبية ليشكلوا مجتمعا «كوزموبوليتيا» متفاعلا. وهكذا تعلمت أشياء كثيرة لم يتحها لي وطني الرازح تحت وطأة ساسته، ونشرت في كبريات الصحف والمجلات العربية ودعيت الى مهرجانات ما كان من الممكن أن ادعى إليها في ظل انحياز الأنظمة السودانية لمبدعيها والترويج لهم وحدهم، الأمر الذي عانيت منه كثيرا خلال وجودي داخل الوطن، فأنا شاعر بلا حزب وبالتالي يمكن اعتباري من جانب واقعنا المزري شاعرا بلا قضية، هكذا ببساطة. وعموما فان ظاهرة الهجرة الراهنة من شأنها أن تحقق الحراك الثقافي السوداني بأبعاد فنية ومضمونية جديدة، تخلصنا من إسار الانغلاق الطويل الذي جعلنا ندور في حلقة مفرغة وفقيرة. وان البعد عن الوطن يسمح لك أن تراه جيدا وتتأمله بشكل افضل، وكما يقول النفري «القرب حجاب». وأنا شخصيا لم اكن ادري أن السودان عظيم في نفسي الى هذا الحد الذي جعل كتاباتي تدور في فلكه، وانه منطو على إمكانات ضخمة إلى هذه الدرجة لولا الابتعاد عنه.

* شاعر مقيم في أبوظبي

* يحيى فضل الله*: ابتلينا بمناخات فاسدة

* للأسف، العقل السوداني، سواء كان في الداخل أو الخارج لا يمارس أي تفكير مؤسسي واعتبر هذا خللا كبيرا. فبناء مؤسسة كي تقود أو تفعل ما أسميته الحراك الثقافي يحتاج الي مناخ يساعد على ذلك. ولكن ابتلينا ـ نحن السودانيين ـ بمناخات فاسدة ومزيفة لا تقوى على تحمل مسؤولية نمو وردة أو زهرة جميلة دعك من شجرة اصلها ثابت وفرعها في السماء. وتضيع عندنا محاولات التأسيس لعمل ثقافي بسبب الأحلام الصغيرة واكاد اجزم أن الجرم السياسي الذي مورس وما زال يمارس هو المسؤول المباشر عن فساد المناخ، إن المؤسسة الثقافية المعفاة، تستند بالضرورة إلى عافية سياسية، مع ملاحظة أن آليات العمل الإبداعي قد تملك توهجها، حتى في اشد ظلمات القبح والتسلط السياسي.

دلني ـ بالله عليك ـ على حزب سياسي سوداني له مشروع ثقافي؟ حين كنت في القاهرة صرح أحد وزراء ثقافة العهد الديمقراطي الأخير، بنشوة تلقائية، بأنه كان يفكر في إلغاء الثقافة ويكتفي بمهام إعلامية فقط، فتأمل!

إن هجرة المثقف أو الفنان، لا تعني هجرة العمل الثقافي لأنها في الأساس هروبية، وأنا أتحدث الآن كمهاجر وهارب كبير. هي هجرة هروبا من واقع بائس مع أحلام ليست وردية بواقع افضل، لذلك بالكاد تلمس نشاط ثقافي هنا وهناك. وحتى هذا يعتمد على مبادرات أفراد. وإذا قمنا بإحصائية دقيقة لعدد من المبدعين في مختلف المجالات والذين لاذوا بالمهاجر ستجد أن العدد مهول، ويتبادر إلى ذهنك انه بالامكان تفعيل حراك ثقافي يطرح ملامح السودان الجميلة لكل العالم ولكن العقبة الكؤود هي أننا جئنا إلى المهاجر نحمل في خلايا تفكيرنا فيروس تلك التلقائية التي تجافي التخطيط وتبعدنا عن حلم المؤسسة. وحتى النشاط الثقافي الذي يتم في المهجر هو نشاط مغلق على السودانيين يتعاطونه كمجرد حنين. إنهم يناقشون قضايا السودان بـ«خرف» سياسي متأصل إلى درجة الهذيان وبين السوداني والسوداني في المهجر تفاصيل «ساس يسوس»، وظلمة الولاء السياسي وحدود الجغرافيا وأمراضها تلك التي القينا بها على كاهل الإنجليز بينما هي صناعة محلية. ما زال حكامنا، الذين حكموا من قبل أو الذين يحكمون الآن أوالذين يحلمون بالحكم فيما بعد، كأنهم يريدون تطبيق مقولة أمل دنقل الشعرية: «لا تحلموا بعالم سعيد فخلف كل قيصر يموت قيصر جديد» هي ورطة وجودية وتراجيدية جدا، وقد تحملها مثلا الطيب صالح فهو نتاج مهاجر وقد تجمل السودان به وتتحملها الآن تماضر شيخ الدين وهي تدس تفاصيل السودان الجميلة في عرض راقص بمشاركة فنانين من أميركا وتحملتها المطبوعات المختلفة التي صدرت ولا تزال تصدر في المهاجر، في وقت تمنعت فيه وزارة الثقافة - أظن معها السياحة - إلى حد الدلال والغنج من كفالة حق الحياة لمجلة «الخرطوم» ومجلة «الثقافة السودانية والإذاعة والتلفزيون» وحدث ولا حرج. هذه ورطة لا يتحملها إلا المبدعون الذين هاجروا وحملوا معهم تفاصيل الوطن لاعادة إنتاجه في صيغة مبدعة تجمله وتحميه من مغبة إنتاج القبح السياسي الذي خرب الحياة في السودان. قصة قصيرة لبشرى الفاضل تتحمل عبء هذه الورطة، قصيدة لحميد تتحمل هذا العبء تماما، لوحة بالأبيض والأسود لحسن موسى تجعل هذا المأزق، أغنية محتملة لهادية طلسم من الحان الموصلي قادرة على امتصاص هذا العبء، رقصات من الدينكا والاشولي والباريا في صالة مغلقة بمدينة أتاوا تتحمل هذا العبء، سيناريو فيلم محتمل لإبراهيم شداد وهو يبحث عن إمكانية إنتاجه يتحمل هذا العبء، كما حدث وتحمل فيلمه الأخير بعنوان «إنسان» هذا العبء لدرجة الفوز بجائزة النقاد في مهرجان للأفلام القصيرة بكاليفورنيا. والفيلم المذكور نفسه قد أطاح به قرار حل مؤسسة الدولة للسينما، وهو في مرحلة المونتاج بمعمل في لندن.

* شاعر وقاص مقيم في كندا



المصدر : الموقع الرسمى لجريدة الشرق الأوسط