المؤسسات أولاً ..بقلم : جمال سلطان

جمال سلطان

مليونية الإسلاميين التي فاجأت الجميع قبل أيام سيكون لها توابع وزوابع متوقعة ، تعيد إنتاج خطاب شيطنة التيار السلفي من جديد في إعلام "غسيل الأموال" ، بوصفه التيار الغالب في تلك المليونية ، وكان صوته وشعاراته هي الأكثر حضورا وحدة ، شيطنة التيار السلفي كانت قد توقفت خلال الأسابيع الأخيرة ، بعد أن استمرت أكثر من شهر كان لا يخلو فيه صحيفة ولا فضائية يوميا من خبر عن ضبط سلفي يفعل كذا ، وهجوم سلفيين على كذا ، وأتوقع خلال الأيام المقبلة إعادة إنتاج خطاب شيطنة التيار السلفي ، والمؤكد أننا سنسمع أخبار متتالية كل يوم عن مجموعة سلفية اعتدت على كذا ، وشخص سلفي فعل كذا ، وليس من المستبعد أن يتم الربط بين السلفيين وبين جماعات العنف المسلحة ، بما في ذلك تنظيم القاعدة وتنظيم الشباب الصومالي وتنظيم أبين في اليمن ، لأن الهستيريا التي بدت خلال اليومين الماضيين تشي بأن الموجة المقبلة ستكون موتورة وجنونية .

لا ينبغي للتيار الإسلامي أن ينشغل خلال الأيام المقبلة بتلك الغارة الإعلامية المنتظرة ، والتي يقودها شخصيات مسيحية متطرفة تسيطر على إحدى الصحف اليومية الخاصة أو شخصيات لها رؤى أيديولوجية تناصب التيار الإسلامي العداء المطلق وتسيطر على صحف يومية خاصة أيضا ، وإنما على التيار الإسلامي أن يفكر في الرسالة الثانية التي يتوجب عليه أن يبعث بها إلى الجماعة الوطنية ، وهي رسالة لا تقل أهمية وخطورة عن الرسالة الأولى التي أرسلها بمليونيته ، والتي أكدت للجميع أنه حاضر بقوة ، وأنه لا يستطيع أي تيار أن يهمشه أو يتجاوزه في صياغة مستقبل الوطن .

يحتاج "حكماء" التيار الإسلامي إلى بدء حوار حقيقي جاد ومنفتح مع كافة التيارات الوطنية ، حوار مباشر وليس عبر وسطاء ، وليس عبر إعلام "مفخخ" وغير أمين ولا نزيه ، ولا يرغب في توافق وطني أصلا ، الحوار ينبغي أن يكون مباشرا وصريحا ، وأن يكون هدفه الوحيد هو صياغة رؤية مستقبلة للوطن ، وهذه الرؤية لن تكون إلا إذا تفهم كل تيار هواجس الآخرين بوضوح ، واستوعب المطالب بدقة ، ووضع يده على نقاط الاتفاق قبل نقاط الاختلاف ، وأنا على يقين ، بدون أي تكلف ، أن نقاط الاتفاق الآن بين التيارات الوطنية المصرية ، إسلامية وليبرالية ويسارية ، هي أكثر كثيرا من نقاط الخلاف ، ومعظم التراشق الأيديولوجي يأتي من الكوادر المتشنجة هنا أو هناك ، ويأتي أيضا من الكيانات السياسية الهشة والهامشية والتي تدرك أنه لا مكان لها في أي مشروع ديمقراطي ، وبالتالي فمن مصلحتها أن تظل نار الخلاف مستمرة ، وأن يزداد الصدع اتساعا بين القوى الرئيسية في الحركة الوطنية المصرية .

أتمنى أن تتجه الأنظار والجهود الثورية في المرحلة المقبلة إلى بناء وطن جديد ، وطن المؤسسات وليس الأشخاص ، فمحنة مصر الكبرى كانت في غياب المؤسسات الدستورية الحقيقية التي تحمي التعددية وتداول السلطة والحريات العامة وسيادة القانون ، وأكثر ما أضاع مصر التنازع حول "الأشخاص" والزعامات ، سواء كانت إسلامية أو يسارية أو ليبرالية أو قومية ، مصر بحاجة إلى "المؤسسات" أكثر بكثير من حاجتها إلى الأشخاص ، فالمؤسسات هي ضمان الاستمرار لمكتسبات الثورة ، وضمان التجذر لكل الحقوق السياسية والإنسانية والاجتماعية التي تحققها الثورة ، الأشخاص تتقلب قلوبهم وضمائرهم أحيانا بين يوم وليلة ، والمؤسسات في مأمن من هذا التقلب السريع والمباغت إلا في دورات عمرية طويلة ، تمنح المجتمعات الفرصة لاحتواء انحرافها وإعادة تصحيح المسار ، إن عطش مصر ـ الدولة والوطن والبشر ـ الحقيقي ليس للإيديولوجيات أيا كانت ، وإنما عطشها للأدوات والقوانين والقواعد والمؤسسات الراسخة التي تحمي حقوق الناس الاجتماعية والسياسية والقانونية والإنسانية ، فدعونا نركز الجهد الآن في انتزاع هذه الأدوات وصياغة مؤسسات دولة ديمقراطية حديثة حقيقية عميقة الجذور ، ولا تضيعوا الوقت في صراعات المكاسب الصغيرة أو المشاغبات التي لا تتجاوز محاولة ملء الفراغ السياسي المؤقت .